بسم الله الرحمن الرحيم
العدد222
وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219).
كان المجتمع العربي في الجاهلية ملوَّثاً ومتورِّطاً بشكل شديد بالخمر والميسر، إذ كان الخمر عندهم وفي تقاليدهم كالماء الذي يشربونه، ولذا لم يكن من الممكن القضاء على مثل هذه العادة القبيحة في حياتهم دفعة واحدة، فلجأ القرآن الكريم إلى البرنامج التدريجي حيث حرّم الخمر في أربع مراحل، ويمكن الاستفادة في الأمور التربوية من هذا الأسلوب القرآني.
بيان الأحكام تدريجياً:
إنّ إقلاع شخص ما عن المخدرات أو السجائر، مع إدمانه عليها لعشرات السنوات، لا يكون بدعوته إلى التخلي عنها دفعة واحدة، لأنّه سوف يجد ذلك مستحيلاً، كما أنّ له أضراراً كثيرة، لذا يجب أن نبدأ ذلك بالتقليل التدريجي لاستخدامه لتلك المادة، ليصل به بالتدريج إلى الدرجة صفر. وفي القرآن الكريم إشارة إلى تلك المراحل الأربعة لتحريم الخمر كما ورد في القرآن الكريم:
1- ليست من الرزق الحسن:
في الخطوة الأولى بعد أن ذكر الله نعمه يقول: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(النحل: 67).
ففي هذه الآية الكريمة جعل الله عزّ وجل الرزق الحسن مقابل المسكرات، وهذه أوّل إشارة إلى أنّ الخمر مخالف للقِيَم، وأدرك الناس من هذه المقارنة أنّ الخمر ليس من الرزق الحسن، وأنّ استعماله لا يتناسب مع ذلك.
2- لا تقربوا الصلاة سكارى:
الآية (43) من سورة النساء تذكر الخطوة الثانية للتحريم التدريجي للخمر حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}.
اعتبرت الآية الكريمة شرب الخمر مناقضاً للصلاة، ولم تسمح للمسلمين في صدر الإسلام بأن يقوموا إلى الصلاة سكارى، وفي هذا إشارة ضمنية إلى أنّ شرب الخمر والسكر لا يتناسب مع العقل والفهم، وأمّا النقطة الثالثة التي يُمكن أن تستفاد من هذه الآية فهي أنّ الصلاة ليست ألفاظاً فقط، بل إنّ روح الصلاة تكمن في حضور القلب، وبما أنّ السكران لا يتمتع بحضور القلب ولا يفهم ما يقول، لذا أمر الله عزّ وجل ألاّ تقام الصلاة في حال السكر.
3- الإثم الكبير:
الآية (219) من سورة البقرة هي المرحلة الثالثة من مراحل التبيين التدريجي لحرمة شرب الخمر، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فكما ورد في الآية الشريفة، فإنّ الخمر معصية كبرى وإن درّت عند بعض الأشخاص منافع وأرباحاً أثناء بيعه وشرائه، ولكن عندما تتمّ مقارنة تلك الأرباح والمكاسب بالأضرار الناجمة عن الخمر وشربه فإنّها أكبر بكثير، لذا تمَّ التعامل في هذه الآية بشدة أكثر مع شرب الخمر حيث عُبّر عنه بالإثم الكبير.
4- حرمة شرب الخمر:
المرحلة الأخيرة وهي تبين حرمة شرب الخمر. تمثَّل ذلك بالتصريح في الآيتين (90 و91) حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} ففي هاتين الآيتين الشريفتين استخدمت عشرة أنواع من التأكيد لتحريم شرب الخمر هي:
1- إنّ الآيتين الشريفتين هما خطاب للمؤمنين ومعنى ذلك أنّ الإيمان يتناقض مع شرب الخمر ومن يشرب الخمر ليس مؤمناً، كما أنّ المؤمن لا يشرب الخمر.
2- جعل الخمر في مصافّ الآثام الواضحة والمسلّمة مثل: القمار، والميسر، وعبادة الأصنام، وفي هذا تأكيد على حرمة شرب الخمر وقد وردت في الرواية: «شارب الخمر كعابد وثن»(1).
3- إنّ وصف الخمر بالرجس هو تأكيد آخر على حرمته.
4- إنّ وصف شرب الخمر بعمل الشيطان دليل على قبح هذا العمل.
5- عبارة (فاجتنبوه) فيه تصريح واضح بالأمر بترك شرب الخمر، بل تصريح آخر على حرمة هذا العمل القبيح.
6- جملة (لعلّكم تفلحون)، حيث جعل الفلاح في ظلِّ ترك شرب الخمر، فيه تأكيد سادس على حرمة شربه.
7- إنّ هدف الشيطان من شرب الخمر إيجاد العداوة والبغضاء بين المسلمين، وكلُّ ما يستخدم وسيلة وسلاحاً للشيطان لإيجاد العداوة والبغضاء بين الناس حرام، وفي هذا تأكيد هام على حرمة شرب الخمر.
8- إنّ جملة (ويصدّكم عن ذكر الله) تأكيد آخر على مدَّعانا، إذ كلّ ما هو مادّة لنسيان ذكر الله والصدّ عنه لا يمكن أن يكون محلّلاً ومباحاً.
9- إنّ الخمر بالإضافة إلى المفاسد المذكورة أعلاه يردع الإنسان عن الصلاة وهذا التأكيد السابع موجود في الآية أيضاً.
10- الجملة الأخيرة (فهل أنتم منتهون) هي التأكيد العاشر على حرمة الخمر وذلك بالقول: ألا تكفي تلك المفاسد المذكورة في الخمر لردعكم عن التلوث به؟
إنّ هاتين الآيتين الكريمتين هما أمر واضح وصريح في بيان حرمة شرب الخمر، كما تشتملان على الفلسفة المادية والمعنوية لتحريمه.
وبالتالي فإنّ الإسلام استخدم البرنامج التدريجي في بيان الأحكام وتبييناً لحرمة شرب الخمر ضمن أربع مراحل، وفي المرحلة الأخيرة منها ذكر التحريم بصورة صريحة وواضحة.
شرب الخمر في الروايات
وردت روايات كثيرة في ذمِّ شرب الخمر وأحكامه، حيث نُشير إلى نموذج واحد منها، أورده المرحوم الشيخ الصدوق في كتابه (الأمالي): يقول رسول الله (ص): «لعن الله عشر طوائف في الخمر هي: الخمر وعاصرها وغارسها وشاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه»(2).
حيث قلّ أن يتم التشديد في أدنى شيء من محرّم كما ورد في الخمر..
فلسفة تحريم الخمر
سؤال: لمَ تحدَّثت الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن المعصومين الأطهار عليهم السلام بهذا القدر في مذمَّة الخمر؟ وما فلسفتها؟
جواب: توجد أسباب كثيرة لذلك نشير إلى نماذج منها:
إنّ الخمر يسلب عقل الإنسان الذي يعدّ جوهر وجوده، وقد يظن بعضهم أنَّ شرب الخمر يسلب عقل الإنسان أثناء السكر فحسب، ولكن الإحصاءات والأرقام تشير إلى أنّ شاربي الخمر يتحولون بالتدريج نحو الجنون، وأن 85% من المجانين الموجودين في مستشفيات الأمراض العقلية، تحولوا إليها على أثر شربهم للخمر وأن 15% منهم فقط فقدوا عقولهم نتيجة عوامل وعلل أخرى.
في إنكلترا، يوجد 53 مجنوناً غير كحولي في مقابل 2249 مجنوناً كحولياً، بمعنى أن مقابل 40 مجنوناً يوجد 39 منهم تعرضوا للجنون على أثر إدمانهم لشرب الخمر(3).
نعم، إنّ الخمر يقضي على أهمّ وأثمن جوهر للوجود الإنساني وهو العقل، ويجعله إنساناً في مصافِّ الحيوانات، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه بتعطيل العقل لا تنتهي مشكلات شارب الخمر عند حد، بل يمكن أن يكون ذلك سبباً لبداية تعاسته، ويمكن أن يقوم بارتكاب جرائم أخرى كالقتل ونهب أموال الناس والسرقة والتعرّض لأعراض الآخرين، وترك العبادات والطاعات، وعشرات الأعمال المحرمة الأخرى التي يمكن أن نتوقعها من إنسان فاقد لعقله وشعوره.
الخمر وسلامة الإنسان:
يعترف علماء وأطباء عصرنا الحالي بأنّ الخمر سبب للعديد من الأمراض، يُمكن أن نشير إلى بعضها مثل الأمراض القلبية والعصبية والجلطات القلبية والسكتات الدماغية والسرطان.
وتؤثِّر المشروبات الكحوليَّة على الإنسان بشكل سلبي، بحيث يمكن أن تهدِّد الأجيال القادمة فشرب الأم الحامل للخمر يُمكن أن يُصيب جنينها بالأمراض المذكورة سابقاً.
الخمر وسلامة المجتمع:
فيما يلي إحصاءات نشرتها بعض النشريات المعتبرة:
إنّ 60% من جرائم القتل العمد و75% من النزاعات الدموية التي تنتهي بالضرب والجرح، و30% من الجرائم غير الأخلاقية منها الزنا بالمحارم و20% من السرقات هي نتيجة شرب المشروبات الكحولية(4).
بالإضافة إلى أنّ صدر الآية الشريفة (91) من سورة النساء قد أشارت إلى هذا الجزء من أضرار الخمر.
الخمر وفقدان القيم والمعنويات:
إنّ المشروبات الكحولية بالإضافة إلى أضرارها الجسيمة على جسم الإنسان والمجتمع، فإنّها كارثة كبرى على القيم الإنسانية كذلك.
كما ذكرت الآية (91) من سورة النساء أن إصابة الإنسان بأمّ الخبائث هذه تؤدي إلى البعد عن الله وعن الصلاة الحقيقية وتصده عنها.
ونظراً لتلك الأضرار التي حذر منها الإسلام قبل 1400 سنة، وثبتت اليوم فإن الله عزّ وجل حرَّم الخمر.
الهوامش:
1- بحار الأنوار، ج47، ص217، ج77، ص47.
2- ميزان الحكمة، باب 1122، الحديث 5126.
3- تفسير الأمثل، ج15، ص74.
4- تفسير الأمثل، ج5، ص75.
والله ولي التوفيق
info@baqiatollah.net