قبل أن ندخل في الحديث عن الدليل الفلسفي على إثبات الصانع سبحانه وتعالى يجب أن نتساءل: ما هو الدليل الفلسفي؟ وما الفرق بينه وبين الدليل العلمي؟ وما هي أقسام الدليل؟
إنّ الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: الدليل الرياضي، والدليل العلمي، والدليل الفلسفي.
فالدليل الرياضي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال الرياضيات البحتة والمنطق الصوري (الشكلي) ويقوم هذا الدليل دائماً على مبدأ أساسي، وهو مبدأ عدم التناقض القائل: إنّ (أ) هي (أ)، ولا يمكن أن لا تكون (أ)، فكلّ دليل يستند إلى هذا المبدأ وما يتفرّع عنه من نتائج فقط نطلق عليه اسم الدليل الرياضي، وهو يحظى بثقة من الجميع.
والدليل العلمي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال العلوم الطبيعية، ويعتمد على المعلومات التي يمكن إثباتها بالحسّ أو الاستقراء العلمي، إضافةً إلى مبادئ الدليل الرياضي.
والدليل الفلسفي: هو الدليل الذي يعتمد لإثبات واقع موضوعي في العالم الخارجي على معلومات عقلية (المعلومات العقلية: هي المعلومات التي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة) إضافةً إلى مبادئ الدليل الرياضي.
وهذا لا يعني بالضرورة أنّ الدليل الفلسفي لا يعتمد على معلومات حسّية أو استقرائية. وإنّما يعني أنّه لا يكتفي بها، بل يعتمد إلى جانب هذا أو بصورة مستقلّة عن ذلك على معلومات عقلية أخرى في إطار الاستدلال على القضية التي يريد إثباتها.
فالدليل الفلسفي إذن يختلف عن الدليل العلمي في تعامله مع معلومات عقلية لا تدخل في نطاق مبادئ الدليل الرياضي.
وعلى أساس ما قدّمناه من مفهوم الدليل الفلسفي قد نواجه السؤال التالي: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقلية أي على الأفكار التي يوحي بها العقل بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علمي؟
والجواب على ذلك بالإيجاب، فإنّ هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع، كمبدأ عدم التناقض الذي تقوم عليه كلّ الرياضيات البحتة، وهو مبدأ يقوم إيماننا به على أساس عقلي، وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء.
والدليل على ذلك أنّ درجة اعتقادنا بهذا المبدأ لا تتأثّر بعدد التجارب والشواهد التي تتطابق معها. ولنأخذ تطبيقاً حسابياً واضحاً لهذا المبدأ، وهو التطبيق القائل: 2 + 2 = 4، فإنّ اعتقادنا بصحة هذه المعادلة الحسابية البسيطة اعتقاد راسخ لا يزداد بملاحظة الشواهد، بل إنّنا لسنا مستعدّين للاستماع إلى أيّ شاهد عكسي، ولن نصدّق لو قيل لنا: إنّ اثنين زائداً اثنين يساوي في حالة فريدة خمسة أو ثلاثة، وهذا يعني أنّ اعتقادنا بتلك الحقيقة ليس مرتبطاً بالإحساس والتجربة، وإلاّ لتأثّر بهما إيجاباً وسلباً.
فإذا كنّا نثق كلّ الثقة باعتقادنا بهذه الحقيقة على الرغم من عدم ارتباطه بالإحساس والتجربة فمن الطبيعي أن نسلّم أنّ بالإمكان أن نثق أحياناً بالمعلومات العقلية التي يعتمد عليها الدليل الفلسفي.
وبكلمة أخرى: أنّ رفض الدليل الفلسفي لمجرّد أنّه يعتمد على معلومات عقلية لا ترتبط بالتجربة والاستقراء يعني رفض الدليل الرياضي أيضاً، لأنّه يعتمد على مبدأ عدم التناقض الذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء1.
نموذج من الدليل الفلسفي على إثبات الصانع:
يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التالية:
أوّلاً: على البديهية القائلة: إنّ كلّ حادثة لها سبب تستمدّ منه وجودها.
وهذه قضية يدركها الإنسان بشعوره الفطري، ويؤكّدها الاستقراء العلمي باستمرار.
ثانياً: على القضية القائلة: كلّما وجدت درجات متفاوتة من شيء ما بعضها أقوى، وأكمل من بعض فليس بالإمكان أن تكون الدرجة الأقلّ كمالاً والأدنى محتوىً هي السبب في وجود الدرجة الأعلى، فالحرارة لها درجات، والمعرفة لها درجات، والنور له درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يمكن أن تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منها، ولا يمكن أن يكتسب الإنسان معرفةً كاملةً باللغة الإنجليزية من شخص لا يعرف منها إلاّ قدراً محدوداً أو يجهلها تماماً، ولا يمكن لدرجة نور ضئيلة أن تحقّق درجةً أكبر من النور، لأنّ كلّ درجة أعلى تمثّل زيادةً نوعيةً وكيفيةً على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعية لا يمكن أن يمنحها من لا يملكها، فأنت حينما تريد أن تموّل مشروعاً من مالك لا يمكنك أن تمدّه بدرجة أكبر من رصيدك الذي تملكه.
ثالثاً: أنّ المادة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالا مختلفةً في درجة تطوّرها ومدى التركيز فيها، فالجُزَيء من الماء الذي لا حياة فيه ولا إحساس يمثّل شكلاً من أشكال الوجود للمادة، ونطفة الحياة التي تساهم في تكوين النبات والحيوان (البروتوبلازم) تمثّل شكلاً أرفع لوجود المادة، و(الأميبا) التي تعتبر حيواناً مجهرياً ذا خلية واحدة تمثّل شكلاً من وجود المادة أكثر تطوّراً، والإنسان هذا الكائن الحي الحسّاس المفكّر يعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.
وحول هذه الأشكال المختلفة من الوجود يبرز السؤال التالي: هل الفارق بين هذه الأشكال مجرّد فارق كمّي في عدد الجزيئات والعناصر وفي العلاقات الميكانيكية بينها، أو هو فارق نوعي وكيفي يعبّر عن درجات متفاوتة من الوجود ومراحل من التطوّر والتكامل؟ وبكلمة أخرى: هل الفارق بين التراب والإنسان الذي تكوّن منه عدديٌّ فقط، أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطوّر والتكامل، كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد؟
وقد آمن الإنسان بفطرته منذ طرح على نفسه هذا السؤال بأنّ هذه الأشكال درجات من الوجود، ومراحل من التكامل، فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّية، وإنّما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجةً من حياة النبات، وهكذا.
غير أنّ الفكر المادي قبل أكثر من قرن من الزمن خالف في ذلك، إيماناً منه بوجهة النظر الميكانيكية في تفسير الكون القائلة بأنّ العالم الخارجي يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة، أي إنّ عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها للبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادة.
وعلى هذا الأساس حصرت المادية الميكانيكية التطوّر والحركة بحركة الأجسام والجسيمات في الفضاء من مكان إلى مكان، وفسّرت أشكال المادة المختلفة بأنّها طرق شتى لتجمّع تلك الجسيمات وتوزّعها، دون أن يحدث من خلال تطوّر المادة شيء جديد، فالمادة لا تنمو في وجودها، ولا تترقّى في تطوّرها، وإنّما تتجمّع وتتوزّع بطرق مختلفة كالعجينة في يدك حين تشكّلها بأشكال مختلفة، وتظلّ دائماً هي العجينة نفسها دون جديد.
وهذه الفرضية أوحى بها تطوّر علم الميكانيك، الذي كان أوّل العلوم الطبيعية تحرّراً وانطلاقاً في أساليب البحث العلمي، وشجّع عليها ما أحرزه هذا العلم من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكية وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتيادية على أساسها، بما فيها حركات الكواكب في الفضاء.
ولكنّ استمرار تطوّر العلم وامتداد أساليب البحث العلمي إلى مجالات متنوّعة أخرى أثبت بطلان تلك الفرضية وعجزها من ناحية عن تفسير كلّ الحركات المكانية تفسيراً ميكانيكياً، وقصورها من ناحية أخرى عن استيعاب كلّ أشكال المادة ضمن الحركة الميكانيكية للأجسام والجسيمات من مكان إلى مكان، وأكّد العلم ما أدركه الإنسان بفطرته من أنّ تنوّع أشكال المادة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى مكان، بل إلى ألوان من التطوّر النوعي والكيفي، وثبت من خلال التجارب العلمية أنّ أيّ تركيب عددي للجسيمات لا يمثّل حياةً أو إحساساً أو فكراً، وهذا يجعلنا أمام تصوّر يختلف كلّ الاختلاف عن التصوّر الذي تقدّمه المادية الميكانيكية، إذ نواجه في الحياة والإحساس والفكر عملية نموّ حقيقية في المادة وتطوّر نوعي في درجات وجودها، سواء كان محتوى هذا التطوّر النوعي شيئاً مادياً من درجة أعلى، أو شيئاً لا مادياً.
هذه هي القضايا الثلاث:
1 ـ كلّ حادثة لها سبب.
2- الأدنى لا يكون سبباً لما هو أعلى منه درجة.
3- اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتنوّع أشكاله كيفياً.
وفي ضوء هذه القضايا الثلاث نعرف أنّا نواجه في الأشكال النوعية المتطوّرة نموّاً حقّاً، أي تكاملا في وجود المادة وزيادةً نوعيةً فيه، فمن حقّنا أن نتساءل: من أين جاءت هذه الزيادة؟ وكيف ظهرت هذه الإضافة الجديدة ما دام أنّ لكلّ حادثة سبباً كما تقدم؟
وتوجد بهذا الصدد إجابتان:
إحداهما: أنّها جاءت من المادة نفسها، فالمادة التي لا حياة فيها ولا إحساس ولا فكر أبدعت من خلال تطوّرها الحياة والإحساس والفكر، أي إنّ الشكل الأدنى من وجود المادة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجةً، الأغنى محتوى.
وهذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية المتقدمة، التي تقرّر أنّ الشكل الأدنى درجةً لا يمكن أن يكون سبباً لِمَا هو أكبر منه درجةً وأغنى منه محتوىً من أشكال الوجود، فافتراض أنّ المادة الميّتة التي لا تنبض بالحياة تمنح لنفسها أو لمادة أخرى الحياة والإحساس والتفكير يشابه افتراض أنّ الإنسان الذي يجهل اللغة الإنجليزية يمارس تدريسها، وأنّ درجة الضوء الباهت بإمكانها أن تعطينا ضوءاً أكبر درجةً كضوء الشمس، وأنّ الفقير الذي لا يملك رصيداً يموّن المشاريع الرأسمالية.
والإجابة الثانية على السؤال: أنّ هذه الزيادة الجديدة التي تعبّر عنها المادة من خلال تطوّرها جاءت من مصدر يتمتّع بكلّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر، وهو الله ربّ العالمين سبحانه وتعالى، وليس نموّ المادة إلاّ تنميةً وتربيةً يمارسها ربّ العالمين بحكمته وتدبيره وربوبيته: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَة مِنْ طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَار مَكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أنْشَأنَاه خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخالِقينَ﴾2.
وهذه هي الإجابة الوحيدة التي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أن تعطي تفسيراً معقولا لعملية النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب. وإلى هذا الدليل يشير القرآن الكريم في عدد من آياته التي يخاطب بها فطرة الإنسان السليمة وعقله السوي:
﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾3.
﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾4.
﴿أفَرَأيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أأنْتُمْ أنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾5.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾6.صدق الله العلي العظيم.
موقف المادية من هذا الدليل
ونشير الآن إلى موقف الماديّة من هذا الدليل.
إنّ المادية الميكانيكية غير محرجة في مواجهة هذا الدليل، لأنّها كما عرفنا تفسّر الحياة والإحساس والفكر بأنّها أشكال من التجميع والتوزيع للأجسام والجسيمات لا أكثر، فلا يحدث من خلالها شيء جديد سوى حركة الأجزاء وفقاً لقوى ميكانيكية.
وأمّا المادية الحديثة فهي لإيمانها بالتطوّر النوعي والكيفي للمادة من خلال هذه الأشكال تواجه إحراجاً في هذا الدليل، غير أنّها اختارت أسلوباً في تفسير هذا التطوّر الكيفي توفّق فيه بين القضية الثانية المتقدّمة ورغبتها في الاكتفاء بالمادة وحدها كتفسير لكلّ تطوّراتها، وهذا الأسلوب هو: أنّ المادة هي مصدر العطاء، وهي التي تموّن عملية التطوّر الكيفي، ولكن لا كما يموّن الفقير المشاريع الرأسمالية لكي يتعارض مع القضية الثانية المتقدّمة، بل إنّ ذلك يتمّ على أساس أنّ كلّ أشكال التطور ومحتوياته موجودة في المادة منذ البدء، فالدجاجة موجودة في البيضة، والغاز موجود في الماء، وهكذا.
أمّا كيف تكون المادة في وقت واحد بيضةً ودجاجةً، أو ماءً وغازاً؟ فتجيب المادية الجدلية على ذلك بأنّ هذا تناقض، والتناقض هو قانون الطبيعة العامّ، فكلّ شيء يحتوي على نقيضه - ضدّه - في أحشائه، وهو في صراع مستمرّ مع هذا النقيض، وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخلي حتى يبرز ويحقّق تحوّلا في المادة، كالبيضة تنفجر في لحظة معينة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها، وعن هذا الطريق تتكامل المادة باستمرار، لأنّ النقيض الذي يبرز من خلال الصراع يمثّل المستقبل، أي خطوة إلى الأمام.
ونلاحظ على ذلك ما يلي:
أنّ المادية الحديثة ماذا تقصد بالضبط من أنّ الشيء يحتوي على نقيضه أو ضدّه؟ وعلى التحديد: أيّ المعاني التالية هو المقصود؟
1- فهل يراد بذلك أنّ البيضة وفرخ الدجاجة نقيضان أو ضدّان، وأنّ البيضة تصنع الفرخ وتسبغ عليه صفات الحياة، أي أنّ الميّت يلد الحي ويصنع الحياة، وهذا تماماً كالفقير الذي يموّن المشاريع الرأسمالية يتعارض مع البديهية المتقدّمة؟
2- أو يراد بذلك أنّ البيضة لا تصنع الفرخ، بل تبرزه بعد أن كان كامناً فيها، لأنّ كلّ شيء يكمن فيه نقيضه، فالبيضة حينما كانت بيضةً هي في نفس الوقت فرخ دجاجة، كالصورة التي تبدو من جانب بشكل ومن جانب آخر بشكل مختلف؟
ومن الواضح أنّ البيضة إذا كانت في نفس الوقت فرخ دجاجة فلا توجد هناك أيّ عملية نموّ أو تكامل عندما تصبح البيضة دجاجة، لأنّ كلّ ما وجد الآن كان موجوداً منذ البدء تماماً، كالشخص يخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراءً، لأنّ كلّ ما بيده الآن من نقود كان في جيبه، فلكي تكون هناك عملية نموّ وتكامل ويحدث شيء جديد حقّاً من خلال تحوّل البيضة إلى دجاجة لا بدّ أن نقول بأنّ البيضة لم تكن دجاجةً أو فرخ دجاجة، بل كانت مشروع دجاجة، أي شيئاً صالحاً لأنْ يصبح دجاجة، وبهذا تتميّز عن الحجر، فقطعة الحجر لا يمكن أن تكون دجاجة، وأمّا البيضة فبالإمكان أن تكون دجاجةً ضمن شروط وظروف معينة، ومجرّد أنّ الشيء ممكن لا يعني وقوعه، فإذا أصبحت البيضة دجاجةً حقّاً فلا يكفي مجرّد الإمكان تفسيراً لذلك.
ومن ناحية أخرى إذا كانت أشكال المادة ناتجةً عن تناقضاتها الداخلية فيجب أن تفسّر تنوّع هذه الأشكال على أساس تنوّع تلك التناقضات الداخلية، فالبيضة لها تناقضاتها الخاصّة التي تختلف عن تناقضات الماء، ولهذا تتمخّض تلك التناقضات عن دجاجة، وهذه عن غاز، وهذا افتراض يبدو ميسوراً عندما نتحدّث عن مرحلة متأخّرة من مراحل تنوّع أشكال المادة، ففي المرحلة التي نواجه فيها بيضةً وماءً يمكننا بسهولة أن نفترض الاختلاف بينهما في تناقضاتهما الداخلية. ولكن ماذا نقول عن تنوّع أشكال المادة على مستوى الجسيمات التي تشكّل الوحدات الأساسية في الكون من بروتونات ونترونات وإلكترونات وبروتونات مضادة وإلكترونات مضادة وفوتونات؟ فهل اتّخذ كلّ جسيم شكلا خاصّاً من هذه الأشكال على أساس تناقضاته الداخلية، فكان البروتون موجوداً في أحشاء مادته ثمّ برز من خلال الحركة والصراع كالدجاجة مع البيضة؟
إذا كنّا نفترض ذلك فكيف نبرّر تنوّع الأشكال التي اتّخذتها تلك الجسيمات؟ مع أنّ هذا يفترض بمنطق التناقض الداخلي أن تكون تلك الجسيمات متنوّعةً مختلفةً في تناقضاتها الداخلية، أي أنّها مختلفة في كيانها الداخلي، ونحن نعلم أنّ العلم الحديث يتّجه إلى الاعتقاد بوحدة كيان المادة، وأنّ المحتوى الداخلي للمادة واحد، وليست الأشكال التي تتّخذها إلاّ حالات متبادلةً على محتوى واحد ثابت، ولهذا كان بالإمكان أن يتحوّل البروتون إلى نترون وبالعكس، أي أن يتغيّر شكل الجُسَيم ـ فضلا عن الذرّة أو الجُزَيء ـ مع وحدة المحتوى وثباته، وهذا يعني أنّ المحتوى واحد في الجميع وإن اختلفت الأشكال، فكيف يمكن أن نفترض أنّ هذه الأشكال نتجت عن تناقضات داخلية مختلفة.
إنّ مثال البيضة والدجاجة نفسه نافع لتوضيح هذا الموقف، فإنّه لكي تتنوّع الأشكال التي تتّخذها بيضات عديدة من خلال تناقضاتها الداخلية المفترضة لا بدّ أن تكون متغايرةً في تركيبها الداخلي، فبيضة الدجاجة وبيضة الطير تنتجان شكلين متغايرين، وهما الدجاجة والطير، وأمّا إذا كانت البيضتان من نوع واحد كبيضتي دجاجة فلا يمكن أن نفترض أن تناقضاتهما الداخلية تؤدّي إلى شكلين مختلفين.
وهكذا نلاحظ أنّ تفسير المادية الحديثة لأشكال المادة على أساس تناقضاتها الداخلية واتّجاه العلم الحديث إلى التأكيد على وحدة المحتوى الداخلي للمادة يسيران في خطّين متغايرين.
3- أو يراد بذلك أنّ البيضة نفسها تعبّر عن ضدّين أو نقيضين مستقلّين لكلّ منهما وجوده الخاصّ، أحدهما يتمثّل في النطفة التي سببها في داخل البيضة اللقاح، والآخر سائر ما تحتويه البيضة من موادّ، وهذان الضدّان وحّدتهما معركة في داخل قشر البيضة، ومن خلال هذا الصراع برز أحد الضدّين، وانتصرت النطفة، فتحوّلت البيضة إلى دجاجة.
وهذا النوع من الصراع بين الأضداد شيء مألوف في حياة الناس، وقديم في تصوراتهم الاعتيادية فضلا عن تصوراتهم الفلسفية. ولكن لماذا نسمّي هذا التفاعل بين النطفة والمواد الطبيعية المكونة للبيضة تناقضاً؟ لماذا نسمّي هذا التفاعل بين البذرة والتربة والهواء تناقضاً؟ لماذا نسمّي التفاعل بين الجنين في رحم أمه وما يستمدّه من غذاء تناقضاً؟ إنّها مجرّد تسمية، وليست بأفضل من أن يقال: إنّ أحدهما يندمج في الآخر، أو يتوحّد فيه.
وهَب أنّا سمّينا ذلك تناقضاً فلن تحلّ المشكلة بذلك ما دمنا نسلّم بأنّ هذا التفاعل الخاصّ بين الضدّين يؤدّي إلى نتيجة أكبر إلى عملية نموّ إلى شيء جديد يزيد على المجموع العدديّ لهما، فمن أين جاءت هذه الزيادة؟ وهل جاءت من الضدّين المتصارعين الفاقدين معاً لها، مع أنّ فاقد الشيء لا يعطيه بحكم القضية الثانية من القضايا الثلاث المتقدّمة؟
وهل نعرف من الطبيعة مثالاً يكون فيه التضاد والصراع بين الأضداد عامل تنمية حقّاً؟ وكيف يساهم الضدّ في تنمية ضدّه عن طريق الصراع معه، مع أنّ هذا الصراع يعني درجةً من المقاومة والرفض، وكل مقاومة تنقص من طاقة الطرف الآخر على التحرّك والنموّ بدلا من أن تساعده على ذلك؟ وكلّنا نعرف أنّ السَبّاح إذا تعرّض في سباحته لأمواج مضادّة من الماء فإنّ هذا سوف يعيقه عن التحرّك إلى درجة كبيرة بدلا عن أن يكون سبباً في التحرك.
وإذا كان الصراع بين الأضداد بأي معنى كان هو الأساس في تنمية البيضة وتطويرها إلى دجاجة فأين التنمية التي يؤدّيها الصراع بين الأضداد في تحوّل الماء إلى غاز ثمّ رجوعه ماءً مرّةً أخرى؟
والطبيعة تكشف لنا باستمرار أضداداً يؤدّي التحامها أو اللقاء بينها إلى دمارها معاً بدلا عن التطور والتكامل، فالبروتون الموجب الذي يشكّل الحجر الأساس في نواة الذّرة ويحمل شحنةً موجبةً له بروتون مضادّ سالب، والإلكترون السالب الذي يتحرك في مدار الذرة له إلكترون مضاد موجب، وإذا حدث أن التَقى أحد هذين الضدّين بضدّه تحدث عمليات إفناء ذرّية تختفي معها معالم المادة من الوجود، بينما تنطلق طاقات وتنتشر في الفضاء.
نخلص من كلّ ذلك إلى أنّ حركة المادة بدون تموين وإمداد من خارج لا يمكن أن تحدث تنميةً حقيقيةً وتطوّراً إلى شكل أعلى ودرجة أكثر تركيزاً، فلا بدّ لكي تنمو المادة وترتفع إلى مستويات عُليا كالحياة والإحساس والتفكير من ربّ يتمتّع بتلك الخصائص ليستطيع أن يمنحها للمادة، وليس دور المادة في عمليات النموّ هذه إلاّ دور الصلاحية والتهيّؤ والإمكان، دور الطفل الصالح والمتهيِّئ لتقبّل الدرس من مربّيه، فتبارك الله ربّ العالمين.
*موجز في أصول الدين،السيد محمد باقر الصدر،دار الزهراء،بيروت ـ لبنان، ص49ـ64.
1- من أجل التوسّع في ذلك والتعمّق في إثباته واستيعاب مواقف المنطق التجريبي والمنطق الوضعي من هذه النقطة، وطريقة تفسير الوضعية لليقين في المبدأ الرياضي على أساس كونه تكرارياً ومناقشتها يمكن الرجوع إلى كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.
2- المؤمنون: 12 - 14.
3- الواقعة: 58 - 59.
4- الواقعة: 63 - 64.
5- الواقعة: 71 - 72.
6- الروم: 20.